بيان “البلطجة”: خليفة سلمان شاهراً زيْفه

* إعداد: هيئة التحرير

لا توجد تعبيراتٌ سياسيّة توصِّف، بدّقة، بيانَ الحكومة الخليفيّة الصادر يوم الاثنين 24 سبتمبر 2018م، أدّق من وصف “البلْطجة”.

دخلَ هذا المصطلح في التّداول العام خلال فترة ما يُعرف بثورات الربيع العربي، وهو يُعرَّف في الويكيبيديا على أنّه “نوع من النشاط الإجرامي، يقوم منْ يمارسه بفرْض السيطرة على فردٍ أو مجموعةٍ، وإرهابهم وتخويفهم بالقوّة عن طريق الاعتداء عليهم، أو على آخرين، والتنكيل بهم، وأحياناً قتلهم”.

بالرجوع إلى بيان حكومة خليفة سلمان، وفحْص ما جاء فيه من تهديدات، سوف يكون يسيراً الوقوف على كلّ علامات ودلائل “البلطجة”، وبحسب ما وردَ في التعريف المذكور. بل إنّ مضمون تهديدات البيان، وخلفياتها؛ تُتيح القول بأنّ خليفة سلمان “ارتقى” مستوى جديداً في “البلطجة”، وذلك حينما أعطاها أبعاداً إجرامية عمليّة، وأضفى عليها تبريرات “قانونيّة” ملفّقة.

وقد جاء في البيان النصّ التالي:

“استنكر مجلس الوزراء بشدة التجاوزات المرفوضة والتصرفات اللامسئولة غير الشرعية التي حدثت في بعض الأماكن خلال ذكرى عاشوراء رغم أنها لا تمت بصلة أو علاقة إلى فعالياته ، وهي تجاوزات مؤسفة وأخطاء متعمدة لتحويل نجاح موسم عاشوراء عن مجراه الصحيح لإثارة الفوضى ولأغراض سياسية برغم ما هيأته الدولة بقيادة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى من مناخ حر وبكفالة الدستور والقانون لممارسة حرية العبادة في ظل أجواء آمنة ، وحث المجلس الجهات ذات العلاقة كلٍ بحسب اختصاصه إلى إنزال أقصى العقوبات القانونية والتنظيمية بحق كل من يثبت تورطه في هذا العمل المشين سواء بشكل مباشر أو غير مباشر ، ومعاقبة كل من يخرج عن النظام ويسيء إلى الوطن ويتطاول على الثوابت الوطنية وذلك بالتصدي له بقوة القانون ووحدتنا الوطنية وتماسك أبناء الشعب ، فيما وجه صاحب السمو الملكي رئيس الوزراء وزارة الداخلية بالتعاون مع وزارة العدل والشئون الإسلامية والأوقاف إلى اتخاذ كافة الإجراءات الصارمة والحاسمة التي تجعل من مرتكبي هذا الجرم عبرة لمن لا يعتبر وذلك بتطبيق القانون وإنفاذه عليهم والتحقيق في أي تقصير أدى إلى هذا التجاوز واتخاذ الإجراءات بحق المتسببين فيه”.

حمد تحت الأقدام.. ونفير “البلطجة”

موضوع البيان هو “رفض” الكتابات الثوريّة التي خطّها المواطنون في البحرين خلال موسم عاشوراء هذا العام، وخصوصاً كتابة اسم الطاغية حمد عيسى على الشوارع، ليكون مداساً تحت الأقدام، وعجلات السيّارات. وكانت الفعاليّة التي جرت في بلدة المالكية، غربي البلاد، الأشهر في هذا السياق، حيث داسَ المعزّون على اسم حمد أثناء مرور الموكب العزائي وسط الشارع العام، وامتنع منظمو العزاء المبادرة إلى محو الكتابات، مشيرين إلى أن ذلك ليس من اختصاصهم.

هذا الاحتجاج المعتاد من الوسائل الشائعة التي يلجأ لها ثوار البحرين، في مختلف المناطق، وفي كلّ المناسبات، وهو يكاد يكون من التقاليد الثورية على مدى العام. وقد عجزت قوّات النظام في الحدّ من هذه الظاهرة، رغم  استعمال القوة وأسلحة القمع المختلفة، وتمرْكز المدرعات في الشوارع والطرق ومداخل البلدات، علاوة على توجيه السلطات بعض الجهات للتأليب ضد منفذي هذه الفعالية وإثارة الفتن الداخلية.

استمرار هذا النوع من الاحتجاج، وعلى مدى سنوات، أصابَ النظام بالحرج، والإعياء في الوقت نفسه. ومن غير المستبعد، ومن جانب النظام، فإن هناك “استثمارا” هذه المرة لموسم عاشوراء من أجل تجريب محاولات أخرى للهجوم على هذا الاحتجاج المدني، والتحريض ضده، وبأدوات متنوعة من القمع والترهيب البلطجي.

في هذا الإطار، كشفَ بيانُ حكومة خليفة سلمان، عن أبرز عناوين هذه المحاولة الترهيبية الجديدة وبطابعها البلطحي، وذلك على النحو التلسلسل التالي الوارد في البيان:

  • وصْف الاحتجاج بأنه “غير شرعي” ولا يمت بصلة بعاشوراء وفعالياته.
  • الإدعاء بأن هذا الاحتجاج كان مقصوداً لتحويل “نجاح” عاشوراء عن مجراه الصحيح، لإثارة الفوضى، ولأغراض سياسية.
  • الزعم بأن حمد عيسى هيأ أجواء آمنة لحرية العبادة.
  • حثّ الجهات المختصة لإنزال أقصى العقوبات القانونية والتنظيمية بحق من يرتبط بهذا الاحتجاج بشكل مباشر أو غير مباشر.
  • معاقبة كل من يخرج عن “النظام” ويسيء إلى “الوطن” ويتطاول على “الثوابت الوطنية”.
  • توجيه وزارة الداخلية للتعاون مع وزارة العدل والأوقاف لاتخاذ كافة الإجراءات “الصارمة والحاسمة” التي تجعل من “مرتكبي هذا الجرم عبرة لمن لا يعتبر”.
  • دعوة الداخلية والأوقاف إلى “التحقيق في أي تقصير أدى إلى هذا التجاوز واتخاذ الإجراءات بحق المتسببين فيه”.

البلطجة: فرض السيطرة

يفشي ذلك عن طبيعة السلوك الخليفي الجديد، أو اتضاحه بشكل سافر، فالنظام الخليفي قرر أن يهيمن على كل العقائد والشعائر الدينيّة، وأن يحصرَ عملياً وظيفة تحديد ما هو “شرعي” و”غير شرعي” في تطبيقات هذه الشعائر. وهذا وجهٌ “إجرامي” في “البلطجة”، أي في “فرض السيطرة”، ليس على الأفراد أو الجماعات العامة فحسب، بل على عقائدهم وشعائرهم التي يختصّ أمر بيانها ومعالجتها بمرجعياتهم الدينية المعروفة. ومن المعروف أن التحكم في عقائد الناس وطقوسهم، وبشكل ترهيبي، يعدّ من الجرائم الدولية.

البلطجة: الكذب وإخفاء الجريمة

يمارس البيانُ شكلاً من “التحايل الذهني والواقعي” المكشوف، فيدعي أولاً بأن هناك توجهاً “مقصودا” لإفشال موسم عاشوراء في البلاد، من خلال افتعال “الفوضى” وإدخال السياسة في إحياء الموسم. ويسوق البيان الخليفي هذا الأمر وكأن الموسم العاشورائي تحت إدارة النظام ومؤسساته، وأنه كان يريد له النجاح، وبالهيئة التي يريدها. والهيئة، كما هو معروف، كانت واضحة منذ بدء الموسم، وكما حصل في المواسم الماضية، وهي الهجوم على المناطق، ونزع أعلام عاشوراء من الشوارع العامة، وإزالة اليافطات والصور، وتكسير المضائف، والتدخل في سير مواكب العزاء ومحتوى القصائد العزائية، واعتقال الخطباء بسبب محاضراتهم في المجالس.

يخفي النظام هذه الجريمة من جهة، ويسوق من جهة أخرى كذبة مبرمجة، ومفادها أن المعزين “انحرفوا” عن الشكل الإحيائيّ التي يريده النظام لعاشوراء، واعتبر ذلك إشعالاً للفوضى، وتسييساً للموسم. وفي ذلك بلطجة فكرية وتاريخيّة، يُراد منها التحكم العميق في تفاصيل الممارسة العاشورائيّة، والحيولة دون استلهام معانيها في الواقع المعاش.

البلطجة: قاموس الإرهاب والتخويف

تضمّن بيان حكومة خليفة سلمان جملةً من المصطلحات والتعبيرات التي تكشف، بوضوح مثير، طبيعة “البلطجة” التي ظهر به خليفة في اجتماع مجلس الوزراء. وكلّ هذه المصطلحات كفيلة بجعل بيان المجلس “نموذجاً” للبلطجة الرسمية، أو الحكومية، والتي لم تكن غريبة عن مسار الأحداث في البحرين، منذ فبراير 2011م، وكان لخليفة سلمان نفسه “سهمٌ” لافت في إشعالها، ورعاية رموزها وأبطالها. ويمكن الوقوف على التالي مما ورد في البيان:

  • أقصى العقوبات القانونية والتنظمية: وتعبير “أقصى”، وفي الجانب القانوني والتنظيمي، يُقدّم صورةً سافرة عن التهديد والتخويف بعيد المدى، وعميق الأثر، الذي يلوّح به البيان. ويتعزز المدى “البلطجي” لهذا البيان؛ حينما يؤكد بأن هذه العقوبات “الأقصى”؛ لن تطال منْ له علاقة مباشرة بما يسميه بالتجاوزات، بل أيضا من له علاقة غير مباشرة به. وهو ترهيب مفتوح، يُتيح للبلطجة أن تتعدّد أشكالها، وجهاتها.
  • يعطي البيان “البلطجة” دوائر مفتوحة من خلال التعاون بين الأجهزة الأمنية (وزارة الداخلية)، والأجهزة الأخرى المعنية بالأوقاف والشأن الديني (داخل الحكومة). ولكي يضمن البيان أداءا “بلطجيا” لهذا التعاون؛ فإنه يصر عليها أن تتخذ إجراءات عقابية تكون “عبرةً لمن لا يعتبر”، وهو انكشاف “وقح” وغير طبيعي في الطبيعة البلطحية لخليفة وحكومته.
  • ثم يُوسِّع البيان زمنَ الفعل البلطجي، من خلال الدعوة إلى فتح “التحقيق” مع الذين لهم صلة أو تورطوا في “التقصير”، بحسب البيان. ويُذكر ذلك بـ“لجان التفتيش” التي انتشرت في وزارات الدولة والشركات في العام 2011م، وبعد اجتياح الجيش السعودي للبلاد، والتي انطوت على كلّ تفاصيل “البلطجة” وعمليات الاضطهاد الممنهج.

على وجه السرعة، نفّذ النظام الخليفي بيانَ “البلطجة”. فتمّ إغلاق مأتم الإمام الرضا عليه السّلام في بلدة المالكية، واعتقال عدد من إدارييه، واستدعاء البقية وتوجيه التهديدات إليه، وإجبارهم على الإدلاء بتصريحات للصحافة تصبّ في مسار “البلطجة” الخليفية. وتبع ذلك، وبعد 24 ساعة من صدور بيان الحكومة؛ نشْر أسماء وصور عدد من أبناء البلدة، واتهامهم بالانتماء إلى “خلية” مرتبطة بإيران والحرس الثوري، والإدعاء بأنها تلقّت التمويل منه لتنفيذ فعالية “حمد تحت الأقدام”. ويُشكّل هذا السلوك العدواني “أقصى” مستويات البلطجة، بما فيها من تهديدات ترهييبة للآخرين.

ولاستكمال هذه الأجواء الترهيبية؛ تمّ استدعاء مسؤولي المآتم في البحرين، وإجبارهم على إصدار بيانات استنكار ضد ما وصفه النظام بـ”التصرفات المسيئة” خلال عاشوراء. بالإضافة إلى التصريحات المتتالية من بقية المسؤولين الحكوميين الذين ردّدوا ما جاء في بيان البلطجة، وأضافوا عليه سيلاً من الأكاذيب والإدعاءات حول رعاية الخليفيين لعاشوراء ودورهم في صيانته وحمايته، وهو المعنى التضليليّ الذي اخترق به آلُ خليفة بعضَ الواجهات والوجهاء الشّيعة، ممّن يرتبطون تاريخياً وتجارياً بالنظام ومصالحه الخاصة.

من الممكن القول بأن بيان أهالي بلدة المالكية، الصادر يوم الأربعاء 26 سبتمبر 2018، كان هو الموقف النموذجي الذي يمكن به كسْر “البلطجة” التي وردت في بيان خليفة سلمان، وتجلّت عملياً في عمليات الإرهاب التي باشرتها السلطات الخليفيّة، حتى الآن. فبيان الأهالي تضمّن المحتوى والمستوى الملائم لتفريغ الأكذوبة الخليفية ونزْع فتيلها، واستطاع كشْف حقيقة الحدث وملابساته، كما أصرّ على التمسك بعاشوراء وقيمها، فضلا عن نجاح البيان الأهليّ في مقارعة بيان البلطجة في إظهار المجرم الحقيقيّ في عاشوراء، ومنْ تلطّخت يداه بأفعال يزيد وقتلة الإمام الحسين بن علي عليه السّلام. وعلى هذا النحو، فإنّ بيان المالكية كان استمراراً في التحدّي المدنيّ، وفي الوعي الحسينيّ، وبذلك فإن مشروع بلطجية آل خليفة تلقّى ضربةً في مقتل، ومن حيث لا يحتسب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى